بشرية النبي ﷺ

من الموسوعة الميسرة في التعريف بنبي الرحمة ﷺ
بشرية النبي ﷺ

حرص محمد ﷺ من البداية على إيضاح طبيعة العلاقة بين الله تعالى والنبي والبَشَر؛ فالله سبحانه هو المعبود الحق الذي تُوجَّه إليه كل الأعمال، ويُرتَجى بجميع العبادات، ولا معبود غيره أبدًا مهما كان؛ إذ إنه هو الرب الخالق والرازق والمحيي والمميت، وهو الإله المعبود المستحِقّ وحده للعبادة، وهو المتصف بصفات الجلال والكمال والمسمى بالأسماء الحسنى سبحانه، والنبي هو ذاك الإنسان البشري الذي اختاره الله ليبلِّغ رسالته للناس، ويعلِّمهم ويبيِّن لهم كيفية التطبيق العملي لما شرعه لهم.
وقد جاء القرآن الكريم موضِّحًا ذلك المعنى بكل وضوح فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: ١١٠(، ، فها هنا بشر وهو الرسول، ووحي بالرسالة، وإله واحد معبود لا شريك له.
فالبشر مُختَار بعناية إلهية، حتى يكون لائقًا من بني جنسه لتحمُّل تلك المسؤولية، والوحي هو المثبِت له والمعلِّم له، والمقوِّم لكل سلوكياته البشرية، وإنما دعوته هي دعوة لأجل عبادة الله وحده الذي لا يحق لغيره أن يُعبَد، فهو وحده المعبود بحق (لا إله إلا هو).
والأنبياء هم أوعى البشر بحقيقة الألوهية، ومعرفة استحقاق الإله وحده للعبادة، ولذلك فإن التمييز واضح عندهم بين ما هو حق الله، وما هو حق النبي، وما من نبي إلا دعا الناس إلى توحيد ربهم وعبادته، وقد نفى القرآن الكريم عن الأنبياء من يدعو الناس لعبادتهم بدلاً من عبادة الله وحده، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران٧٩).
لقد فضَّل الله نبيه محمدًا ﷺ، واصطفاه على سائر البشر، ومن مظاهر هذا التفضيل:
• ما جبله الله عليه من الأخلاق والسمات والسجايا.
• أنه يتلقى الوحي من السماء، وينزل عليه كلام الله عز وجل.
• أنه رسول إلى الناس يبلِّغهم عن الله تبارك وتعالى، ويدعوهم إلى عبادته.
وهذه الأمور تقود بعض الناس إلى أن يتجاوزوا الاعتدال في التعامل مع شخصية النبيﷺ، وربما قادهم ذلك إلى الغلو فيه، وإلى أن ينسجوا في أذهانهم صورة تتجاوز القدر البشري.
حين نعود إلى القرآن الكريم، ونتأمل الصورة التي يرسمها القرآن للمرسلين عمومًا، ولمحمد ﷺ ؛ نجد التأكيد على صفة البشرية بارزاً في ذلك.
ويتمثل ذلك فيما يلي:
أولاً: حين اعترض المشركون على إرسال الرسول من البشر، وسألوا أن ينزل عليهم مَلَك من السماء ؛ جاء تأكيد هذا المعنى في القرآن، وأنه لو نزل ملك لجاء بصورة البشر. قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (الأنعام: ٨ – ٩).
إن الرسل يؤدون رسالتهم للناس من خلال مُعايشتهم معهم، والتواصل معهم، ويعلِّمونهم أحكام الدين، ليس من خلال الحديث فحسب، بل من خلال المعاشرة والمعايشة، ومن هنا لن يتحقق ذلك ما لم يكونوا بشرًا مثلهم يرونهم ويتعاملون معهم كما يتعاملون مع البشر.
ثانيًا: حكى القرآن الكريم عن أهل مكة أنهم اعترضوا على رسالة النبي ﷺ بأنه بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، قال عز وجل: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} (الفرقان: ٧- ٩)، ثم أخبر تبارك وتعالى بعد ذلك في السورة نفسها، أن هذه سنته في المرسلين؛ فهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (الفرقان: ٢٠).
ثالثًا: أخبر تبارك وتعالى أن أقوام الأنبياء السابقين كانوا يعترضون على أنبيائهم بأنهم بشر، ويرون أن ذلك مانع عن إجابة دعوتهم واتِّباعهم، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (الأنبياء: ٢ – ٣ (.
وفي سورة المؤمنون التي تليها بسورتين حين جاء الحديث عن تفاصيل قصص الأنبياء في أثناء السورة، وأشار القرآن إلى موقف قوم نوح عليه السلام، وأنهم اعترضوا على قبول رسالته لكونه بشرًا؛ قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} (المؤمنون: ٢٤).
وأشار أيضًا إلى موقف عاد قوم هود عليه السلام، وأنهم اعترضوا على نبيهم بالاعتراض نفسه، قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (المؤمنون: ٣٣ – ٣٤).
رابعًا: أخبر القرآن الكريم أن قوم محمد ﷺ طالبوه بمطالب، واعترضوا عليه بأمور، قال عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (الإسراء: 90-93).
ثم أخبر تبارك وتعالى أن هذا الأمر ليس خاصًّا بقومه، بل هو شأن الأمم السابقة مع أنبيائها؛ فقال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} (الإسراء: 94 – ٩٥).
خامسًا: أمر الله تبارك وتعالى نبيه ﷺ أن يقول ذلك للناس، وأن يصرح ببشريته، بل أن ينكر عليهم ادعاءهم ما هو سوى ذلك، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: ١١٠) ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (فصلت:6)،
وحين نعود إلى سيرته ﷺ نجد ما يوضح بجلاء بشريته، سواء كان ذلك من خلال الأحداث والمواقف التي تحصل له، أو من خلال حديثه عن نفسه.
كان يشارك أصحابه المعاركَ والغزوات، وفي غزوة أُحُد ناله ما نالهم، فأصابته جراحات، وكُسرت أسنانه، بل أشاع أعداؤه أنه قُتل، وهنا جاء التعقيب من القرآن الكريم مؤكدًا على بشريته، وأنه يمكن أن يُصيبه الموت أو القتل قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: ١٤٤).
كان ﷺ يصلي بأصحابه فيصلون وراءه، وعدد الركعات يختلف من صلاة لأخرى؛ فالفجر ركعتان، والظهر والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، والعشاء أربع ركعات.
وذات يوم وهو ﷺ يصلي بأصحابه نسي كمْ صلَّى، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله ﷺ الظهر خمسًا، فلما سلَّم قلنا: يا رسول الله؛ أَزِيد في الصلاة؟ فقال: «وما ذاك ؟» قالوا: صليت خمسًا، فقال: فثنى رجله واستقبل وسجد سجدتين، ثم سلَّم، وقال: «إنما أنا بشر مثلكم أتذكَّر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّروني، وإذا شكَّ أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب فليبنِ عليه ثم يسجد سجدتين».
كما نسي مرة أخرى فسلَّم من ركعتين في صلاة الظهر أو العصر.
ومرة أخرى نجد النسيان منه ﷺ فيما يتعلق بالصلاة في أمر الطهارة؛ إذ الواجب على المسلم أن يتطهر قبل الصلاة، والنبي ينسى ﷺ كغيره من البشر؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أُقيمت الصلاة، وعُدِّلت الصفوف قيامًا، فخرج إلينا رسول الله ﷺ فلما قام في مصلاه ذكر أنه جُنُب، فقال لنا: مكانَكم، ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبَّر فصلينا معه».
تقويم إلهي:
كان محمد ﷺ بَشَراً يجتهد فيما لم يوحَ إليه فيه وَحْي، وقد لا يصيب في اجتهاده؛ فيستدرك عليه الوحيُ ذلك، وسيأتي معنا المواقف والآيات التي تؤكد ذلك المعنى وتوضِّحه، إلا أننا هنا نؤكد على ذلك الموقف الخاص الذي يدل على ما نريد توضيحه، فالآيات من(1ـ 11) من سورة عبس تتحدث عن عتاب قرآني لمحمد ﷺ، وتقويم لما حدث منه تجاه أحد المسلمين الفقراء الذين فقدوا البصر، بينما محمد ﷺ مع بعض زعماء قريش يدعوهم إلى الإسلام، ويبين لهم، وقد استشعر منهم قبولاً له؛ إذ جاءه ذاك المسلم الفقير الضرير «ابن أم مكتوم»، وجعل يقول له: يا رسول الله! أرْشِدني، فجعل النبي ﷺ يلتفت عنه، ويُقبل على الآخر، فنزلت تلك السورة.
قد رعى محمد ﷺ في ذلك الموقف طموحا بشريًّا عاديًا لهداية بعض زعماء القوم ذوي السلطان، الذين قد ظنَّ أنهم بإسلامهم قد تعود مصالح كبيرة على الدعوة، ولعل مثل هذا الهدف أن يكون مبررًا على المستوى البشري لأصحاب الدعوات عمومًا، خاصة أن أعداءه كانوا دومًا ما يتبجحون بسؤالهم إياه: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (مريم: ٧٣)، مشيرين إلى أن معظم أتباع النبي ﷺ من الفقراء والضعفاء.
إن رغبته إذن في استمالة بعض الأشراف إلى الإيمان، وكسبهم لمعسكر الإسلام؛ رغبة طبيعية تمامًا يفهمها البشر بلا استنكار، إلا أن القرآن جاء ليؤكد على معانٍ عظيمة أخرى، أنْ لا فرقَ عند الله بين غنيّ وفقير، وشريف ووضيع، وأعمى ومُبْصِر، وحاكِم ومحكوم، قال الله سبحانه وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} (عبس: ١ – ١١) .
وصار محمد ﷺ فيما بعدُ كلما التقى ابنَ أمّ مكتوم يرحِّب به أحسن ترحيب، ويحتفي به.
بَشَر في الحكم بين الناس:
كان محمد ﷺ يحكم بين الناس، ويرجعون إليه فيما ينشأ بينهم من اختلاف وخصومة.
ورغم منزلة محمد ﷺ وأنه مُسَدَّد بالوحي من الله؛ إلا أنه يمارس أعمالاً بصفته البشرية، ومنها القضاء.
إنه يلتزم في القضاء بأن يحكم بين الناس بكتاب الله، لكن الناس يعبِّرون عن دعاواهم أمام القاضي، وهم يختلفون في قُدرتهم على التعبير والدفاع عن حقوقهم، من هنا يبيِّن محمد ﷺ للناس أنه بشر حتى وهو في ميدان القضاء.
عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ قال: «إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطعه به قطعة من النار».
وتبيِّن لنا إحدى روايات هذه القصة أن سبب هذه المقولة منه ﷺ أنه سمع صوت خصمين بباب حُجْرته فخرج فقال لهما ذلك.
لقد كان ﷺ يسعى من ذلك إلى تربية الناس، وإصلاح الضمير والوازع الداخلي الذي يجعل الناسَ يحفظون حقوقَ غيرهم، ويبتعدون عن جعل القضاء وسيلةً لأن يأخذوا ما ليس لهم.
إن القانون مهما بلغ من الإحكام والضبط يسهُل التحايل عليه، ويسهل استغلال الثغرات فيه، لكن حين ينمو الضمير والرقابة الداخلية ستزول كثير من مظاهر الاحتيال وصور السعي لأخذ حقوق الآخرين.
حين سمع الرجلان مقالة محمد ﷺ تركت أثرًا في نفسيهما، كما تروي لنا ذلك زوجته أم سلمة – رضي الله عنها – فتقول: فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما لصاحبه: حقي لك، فقال رسول اللهﷺ «أما إذا فعلتما ذلك فاقتسماه، وتوخيا الحق، ثم استَهِمَا ثم تحللا».
بشر في تعامله مع أمور الدنيا:
عاش محمد ﷺ في مكة، وهي ليست أرض زرع ونخيل، ثم هاجر ﷺ إلى المدينة التي كانت مشتهرة بالنخيل، فرآهم وهم يُصلِحون نخلهم، فقال مقولة باعتبار خبرته البشرية، فأخذ بها أصحابه رضوان الله عليهم؛ فكان هذا الموقف:
عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله ﷺ في نخلٍ، فرأى قومًا يُلَقِّحُون؛ فقال: «ما يصنع هؤلاء؟». قالوا: يأخذون من الذَّكَر فيجعلونه في الأنثى. قال: «ما أظن ذلك يُغني شيئًا»، فبلغهم فتركوه فلم يَصْلُح. فقال النبي ﷺ: «إنما هو ظنّ، فإن كان يُغني شيئًا فاصنعوه، فإنما أنا بشرٌ مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم عن الله عز وجل. فلن أكذب على الله».
إن محمدًا ﷺ لم يأت للناس ليعلِّمهم كيف يزرعون، وكيف يديرون شؤون دنياهم؛ فهذا متروك لخبرتهم ومعرفتهم البشرية، ما داموا لم يرتكبوا شيئًا مما حرَّمه الله، ولم يقصِّروا فيما أوجب عليهم سبحانه، ومن هنا فما يقوله في أمور الدنيا المحضة ما لم يكن وحيًا؛ فهو اجتهاد بشري منه ﷺ، يطلب منهم أن يتعاملوا معه على هذا الأساس، وأن يطبِّقوا المعايير البشرية في تقويم ما يصلح وما لا يصلح.
بشر في تعامله مع الناس:
كان ﷺ يتعامل مع الناس ويخالطهم، ورغم ما أُوتِي من خُلُق حسن إلا أنه ﷺ بشر يعترف أمامهم ببشريته، فلو آذى أحدًا منهم؛ فإن الله عز وجل يجعل مقابل ذلك جزاءً يلقاه من أصابَه الأذى في الدار الآخرة.
يحدثنا عنه صاحبه أبو هريرة رضي الله عنه أنه ﷺ سأل ربه عز وجل لمن وقع منه تجاههم أذى بقوله:”فاجعلها له زكاةً وصلاةً وقُرْبَة تقرِّبه بها إليك يوم القيامة».
وتحدِّثنا زوجته عائشة – رضي الله عنها- عن هذا الموقف فتقول: دخل على رسول الله ﷺ رجلان فكلَّماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه، فلعنهما وسبَّهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله! من أصاب من الخير شيئًا ما أصابه هذان؟ قال: «وما ذاك؟» قالت: قلتُ: لعنتَهما وسببتهما. قال: «أو ما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاةً وأجرًا».
إن محمدًا ﷺ وهو يتحدث بذلك عن نفسه يُعَلِّم أتباعه رعاية حقوق الآخرين، وخطورة ظلمهم وإيذائهم، وأن الإنسان لو أساء لغيره أو ظَلَمَه؛ فعليه أن يمحو هذه الإساءة.
لئن كان محمد ﷺ آتاه الله هذه الميزة والمنزلة، فغيره لم يؤتَ ذلك، حينها لا غِنَى لنا حين نسيء للآخرين عن أن نسعى لما يُزِيل التَّبِعَة عنا، بالاعتذار لهم، أو الاستغفار لهم، أو الإحسان إليهم بما يمحو أثر هذه الإساءة.

Loading

شارك هذا المنشور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *